النبّاشون- مهنة عبر التاريخ، من المقابر والكنوز إلى قمامة الأسد الأخيرة.

تعتبر مهنة "النبّاش" من الحرف العريقة التي شهدت ازدهارًا عبر العصور، إذ تمكن أصحابها من تحقيق مكاسب طائلة رغم بساطة أدواتهم المتواضعة، مما انعكس إيجابًا على أوضاعهم المعيشية.
في غابر الأزمان، كانت القوة البدنية هي السلاح الأمضى للنبّاش، مقرونة بشغف جامح للاكتشاف، وهو ما تطلب شجاعة منقطعة النظير وإقدامًا على اقتحام المخاطر والمجهول.
تبدأ حكاية النبّاشين بالبحث المضني عن الكنوز الدفينة. فمنذ القدم، سعى الإنسان جاهدًا إلى استكشاف أعماق الأرض والغوص في لجج البحار بحثًا عن الذهب النفيس، والجواهر الثمينة، والأحجار الكريمة المتلألئة، طمعًا في الثراء الفاحش وتحقيق السعادة المنشودة، إذ لطالما ارتبطت السعادة في أذهان الكثيرين بالمال، وذلك قبل ظهور التيارات الاشتراكية والدعوات إلى الزهد في الحياة والاكتفاء بالقليل، على طريقة أغنية "الصبوحة": "على البساطة البساطة".
النبش في المقابر
شاعت ظاهرة نبش القبور بين المعدمين في حقبة زمنية كان الناس يتباهون بتزيين أسنانهم بطبقة رقيقة من الذهب. بيد أن هذه المهنة لم تكن مُجدية في أغلب الأحيان، إذ غالبًا ما كان النبّاش يعود بسن ذهبية يتيمة لا تفي بمتطلبات الحياة الضرورية لفترة وجيزة.
في قرية بسامس التابعة لمحافظة إدلب، يتربع تل رماديٌّ يحتضن كهفًا، تتناقله الألسن أسطورة مفادها أن النبي أيوب -عليه السلام- اعتزل الناس فيه، وأنه عندما اندلع بركان في هذا المكان، مدّ يده المباركة وأخمد نيرانه، فتجمعت المياه في الأسفل.
رسخت في أذهان البسطاء فكرة مفادها أن الدود الذي كان ينهش جسد النبي أيوب عندما سقط على الأرض قد تحوّل إلى مرجان نفيس وعقيق لامع. وقد استنفر سكان تلك المنطقة بعد انتشار هذه الحكاية على لسان بدويٍّ يدّعي معرفة الغيب وقراءة الكف، وكان قد نثر بعض الخرز الرخيص في المكان ليضلل الناس ويوهمهم بوجود كنز دفين حقيقي، مما يدفعهم إلى الخوض في الوحل والتمرّض، ليقوم هو بدوره بكتابة الأحجبة لهم زعمًا منه بالشفاء!
البحث عن الكَنز
العديد من الأشخاص مستمرون في البحث عن الكنوز، ففي أعماق البحار يعتقدون أن القراصنة الذين ابتلعت سفنهم الأمواج كانوا يمتلكون كنوزًا لا تقدر بثمن. وفي مدافن الملوك وأهرامات قرية البارة، وفي مناطق أثرية أخرى، الأمر الذي دفع الدولة إلى إيلاء هذه الأماكن اهتمامًا خاصًا ومنع التنقيب فيها.
في ثمانينيات القرن الماضي، اعتقد بعض أهالي درعا أنهم بعيدون عن أعين السلطة، وبينما كانوا يحفرون عثروا على كنز حقيقي. وبالطبع، وصل الخبر إلى السلطة في ذلك الوقت، ممثلة بالوريث باسل الأسد الذي كان يسيطر على المناطق الأثرية في سوريا. وعلى إثر ذلك، تم اعتقال هؤلاء النباشين في سرية تامة، وانتشرت القصة بين الناس، وتناقلوها سرًا خفية، إذ لم يكن أحد يجرؤ في ذلك الوقت على رفع صوته بالحديث في أي شأن يتعلق بملفات "الدولة". وبحسب شهادة أحد أبناء درعا، فقد حطت طائرة مروحية في موقع الكنز، وحملت الكنز بأكمله، وحلقت بعيدًا.
وفي الفترة الزمنية نفسها، تجرأ أشخاص من أريحا على الحفر، وعثروا على كنز دفعوا ثمنه أيامًا من الاعتقال، إذ تعرضوا للضرب على عدد الليرات الذهبية التي عثروا عليها، وسيطرت مديرية الآثار على جميع الأماكن الأثرية في البلدة التي يعتقد أنها تحتوي على كنوز حقيقية، خاصة الأسواق التي طمرها الزلزال، فقد تعرضت أريحا عبر تاريخها لزلزال مدمر دفن المدينة بأكملها، وعاد الناس إليها وبنوها من جديد.
نبّاشو عهد الثورة السورية
مع انطلاقة الثورة السورية المشؤومة، برزت إلى الوجود مهنة سرقة الآثار التي تزعمها ابن رفعت الأسد، الذي قدم إلى سوريا في ذلك الوقت ونهب ما استطاع ثم نقله إلى بريطانيا، ومن ثم إلى أمريكا، حيث بيع هناك بأسعار باهظة.
ويمكن تصنيف النباشين إلى طبقات:
الطبقة الدنيا لم تكن تعتمد على سرقة الآثار التي كانت حكرًا على آل الأسد والمقربين من النظام، فاستبدلوا مصطلح النبش بالتعفيش، حيث عمد الجنود إلى تعفيش البيوت بعد قتل أصحابها، أو تهجيرهم، أو حتى أثناء وجودهم في البيت.
وظهرت الأسواق المعروفة "بسوق السنة"؛ لأن المسروقات كانت من بيوت المسلمين السنة تحديدًا، فهم الذين قُتلوا وهُجروا، ودُمرت بيوتهم وأحياؤهم السكنية منذ بداية الثورة المزعومة. وكان العلويون في حمص أول من افتتح أسواق السنة، وأول من أعلن عن تحويل أحياء حمص السنية إلى أرض قاحلة سيزرعونها في المستقبل "بطاطا".
بعد تعفيش البيوت، لم يعد هناك مصدر رزق لجيش النباشين الأسدي، فأصبحوا يعودون إلى البيوت المقصوفة ليهدموا الأسطح، ويسحبوا منها الحديد، كما سحبوا أسلاك الكهرباء من الجدران، وأنابيب التصريف الصحي من أرضيات البيوت.
إن الدمار الهائل الذي أحدثه الأسد في المدن المنكوبة، والانهيار الاقتصادي المدمر، والجوع الذي فتك بأمعاء البشر، كل ذلك أدى إلى ظهور مهنة النباشين بشكل ملفت للنظر، مما دفع شرطة دمشق إلى التحرك لوقف عمل هؤلاء وانتشارهم في المدينة.
النباشون اليوم ينبشون في أكوام القمامة، يفرزونها بعناية، ويبيعونها بأسعار جيدة، ويحصلون على مبالغ مالية تفوق راتب موظف في الدولة، وهذا هو السبب الذي جعل عين السلطة تضيق عليهم.
مهنة نبش القمامة منتشرة في جميع دول العالم، وإن كانت النظرة إلى العاملين فيها نظرة دونية ومتعالية، إلا أن الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد سارعت إلى السيطرة على الوضع، ومنعت الشرطة من التدخل، وقادت حملة "النبّاشين" في البحث داخل القمامة عن المواد المفيدة.
مما لا شك فيه أن الفائدة عظيمة من وراء هؤلاء الفقراء الذين يعملون في هذه المهنة، نساءً وأطفالًا ورجالًا. وفي السيطرة على مهنتهم مزيد من القمع وسحق هذه الفئة من البشر المسحوقة أصلًا، والتي وجدت في تلك المهنة ما يعينها على تأمين قوت يومها.
لكن آل الأسد لن يتركوا للشعب شيئًا يعيش منه على جميع المستويات، وهذا الأمر ليس وليد اللحظة، بل هو قديم منذ أن تسلم "النبّاش الأول" مقاليد الحكم في سوريا، وأورث المهنة لأولاده، ولكن عندما وصلت إلى ماهر، أوشكت الأيام على الانتهاء، وغرق في "القمامة"، إذ لم يترك له والده ومن بعده شقيقه باسل، ومن بعده شقيقه بشار، سوى قيادة فرقة النباشين "الرابعة"، وتحديد سلطته ومصدر رزقه داخل حاويات القمامة المكدسة.
